
في زاوية بعيدة من الشمال الموريتاني، حيث ترتفع صخور الحديد وتحكي الرمال حكايات تعب ونضال، تنهض مدينتا ازويرات وانواذيبو كقلبين نابضين بجمهورية غير معلنة… جمهورية اسمها : "سنيم".
هنا، لا تحتاج الزوجة إلى تقويم هجري أو ميلادي لتعرف يوم الراتب. يكفيها أن ترى نظرة في عين زوجها أو أن تتابع نشرات التواصل الاجتماعي حتى تدرك أن موسم "الحصاد" قد حان، وأن قطار الامتيازات قد أطلق صافرة الوصول.
منزل العامل في سنيم يشبه بيتا يزهر مرة كل شهر.
قبيل العودة من العمل، ترتب الزوجة الغرفة وتجهز عطورها المفضلة، وتلقي على الأبناء وصايا الاستقبال: "اليوم يعود والدكم براتبه، لا تنسوا الابتسامة ولا تغيبوا عن الباب". ومنذ أن أُنشئت سنيم، لم تكن لحظة صرف الرواتب سرا داخل البيوت، حيث عرفت الزوجات – جيلا بعد جيل – توقيتها بدقة، وكأنهن كن شريكات في جدولة الرواتب نفسها. أما مشاهد الابتهاج والطقوس الخاصة التي تحول البيت إلى مهرجان مصغر، فغالبا ما ترتبط بتلك الامتيازات الموسمية التي تعلنها الشركة في شهري أبريل ودجمبر، حين يتضاعف الانتظار، ويكبر الأمل، وتغدو الأسرة كلها في وضع "ترقب".
وعندما يطرق الباب، لا يفتح فقط للدخول، بل يفتح على لحظة شفافة من الفرح المشترك.
تتفحص الزوجة الراتب كأنها تراجع ميزانية دولة، وتسجل التزامات الشهر القادم بحساب أمين الخزينة. ولا شيء في ذلك يعدّ تطفلا… بل هو تقليد صار من سمات العائلات "السنيمية" : الشفافية المطلقة بين العامل وشريكة دربه.
في مدن أخرى، قد يضطر الرجل إلى التخفي عند استلام راتبه، أو يؤجل كشف تفاصيله. أما في ازويرات وانواذيبو، فالأمر مختلف: هنا الثقة لا تمنح، بل تبنى بالراتب والتفاصيل الدقيقة.
وما إن يأتي شهرا أبريل أو دجمبر، حتى تتحول البيوت إلى مراكز تحليلات اقتصادية. الأخبار تأتي من الصفحات الإلكترونية، والتسريبات من الواتساب، والزوجة تفتح عينيها صباحا لتقرأ: "سنيم تعلن عن منح امتيازات جديدة للعمال". فتبتسم ابتسامة تسبق حتى ابتسامة العامل نفسه، وكأنها شاركته الحضور في اجتماع المفاوضات.
لكن الشفافية لها ضريبة. فمع كل خبر عن امتيازات جديدة، تهتز الهواتف برسائل الأقارب من خارج المدينتين: "سمعنا أنكم استلمتم زيادة؟"، "هل من مساعدة هذه المرة؟"، "قالوا إن سنيم أعطتكم رواتب إضافية؟". وهنا تبدأ جولة جديدة من التحديات، حيث تجد الأسر "السنيمية" نفسها مضطرة للرد على أطماع لا تعرف حدودا، لتستمر في الحفاظ على توازنها بين واجب العطاء والقدرة على الصمود.
في جمهورية "سنيم"، ليست العائلات مستهلكة لرواتب فقط… بل هي شريكة في الإنتاج النفسي والمعنوي. الشفافية هنا ليست شعارا إداريا، بل عادة منزلية، وثقافة يومية، ومرآة تعكس مدى النضج الذي وصلت إليه العلاقة بين العامل وأسرته. وربما، في ظل هذا النموذج الفريد، نتعلم أن أقوى المؤسسات لا تبنى فقط على الحديد والنار، بل على صدق الراتب… وصدق العلاقة.
ازويرات ميديا